عاجل
الأحد 17 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
نجيب محفوظ أيام اللب بـ"مليم"  والسينما بـ"قرش"

نجيب محفوظ أيام اللب بـ"مليم"  والسينما بـ"قرش"

كثير مما حكاه نجيب محفوظ هنا لم يروه من قبل. 



عفوية ردوده في حديثه عن طفولته مع ابني "جمال دياب"، تكشف عن روح الطفل نجيب محفوظ. أمور بسيطة، وطفولية، وهذا أجمل ما في الكلام.

والحكاية أنني كنت قد استأذنت الكاتب الكبير في أن يجري ابني حوارا معه لمجلة الحائط التي يقوم بتحريرها في مدرسته "ليدرز"، عندما كان تلميذا بالصف الخامس الابتدائي، ولم يكن قد أكمل بعد السنوات العشر من عمره.  الكاتب الكبير رحب بمقابلة ابني الطفل الصغير.

ثم خلال اللقاء إذا بالحوار يتحول إلى  الجلسة العائلية التي يتبادل فيها الجد والحفيد الضحكات التي لم تكن مجرد انفراجة للشفتين، فقد تكرر من جمال ابني أن يستقبل بعض ما يرويه الكاتب الكبير بالضحك الذي يصل إلى القهقهة بصوت مسموع، فما يكون من الكاتب الكبير إلا أن يتجاوب بتلقائية مع عفوية ابني الطفل كأنهما طفلان معا.

أحد الأمور التي لم يتمالك ابني نفسه من الضحك أمامها هو بمجرد أن ذكر الأديب الكبير، أنه قد تعلم السباحة عن طريق "القرع" في طفولته.  

شاركه نجيب محفوظ الضحك، ثم شرح له الموقف بالتفصيل حول ما جرى له على شاطئ "سان استيفانو" بمدينة "الإسكندرية"، وهو طفل في حمام السيدات، من أنه كان في كل مرة ينزل البحر يتم تجهيزه مثل غيره من الصغار بأن يربطوا له ثمرة قرعة مفرغة في كل كتف مثل العوامة.

ثم إذا به في أحد المرات وهو يتحرك داخل المياه لا يجد "القرعة"، قالها بدهشة كأنها مستمرة معه منذ الطفولة.  ضحك جمال بشدة من جديد، أما الأديب الكبير فكان يكمل المشهد قائلًا: في التفاتة سريعة مني وجدت "القرعة" تعوم خلفي. (صوت ضحكة جمال مستمرة). بينما يكمل نجيب محفوظ هذه المرة ببهجة كأنها مستمرة معه أيضًا منذ الطفولة قائلًا: فأدركت أنني قد صرت قادرًا على السباحة. 

ثم يواصل بأسى كأنه مستمر معه أيضا منذ الطفولة قائلًا: لكنني أُصبت بحساسية في وقت مبكر بعد حصولي على "الليسانس" مباشرة. ومنذ تلك الإصابة لم "أذق" ماء البحر. (كلمة "أذق" بالضبط هو التعبير الذي استخدمه الكاتب الكبير).

مبهجات الأطفال

ببراءة سأله "جمال" عما إذا كان في طفولته قد أحب الآيس كريم والشيكولاتة والبومبون؟

ــ فرد فورًا: كنت أحب كل هذه الأشياء.

ثم روى: كان الذي يبيع الآيس كريم رجلا تركيا يخرج إلى الشارع بالفوطة الحمراء، وهو يحمل وعاء الآيس كريم، وكان ينادي عليه باسم "كاي ماك". فنجري عليه بفرحة ونشتري.

وأضاف كأنه يسترجع صوت النداء، كان ينادي: "كاي ماك دندورمة". وفي الغالب أن هذا هو الإسم التركي للآيس كريم، وكان يمر عبر الأحياء حاملًا وعاء الآيس كريم، مثل بائع "العرقسوس"، الذي مازال يتجول حاليًا في بعض الأحياء ويبيع مشروب "العرقسوس" البارد.

ثم حكى عن الشيكولاتة قائلًا: في الشيكولاتة كان هناك نوعا عليه إشارة عن مسابقة "العِش يكسب". حيث كنا عندما نفتح قطعة الشيكولاتة نجد صورة، ومن يجد "تابلوه" عبارة عن صورة لـ"عِش حمام" يحصل على جائزة من الشركة. لكن كان العِش عزيزًا جدًا، لا يتم العثور عليها مثل بقية الصور.

ويكمل كطفل قائلًا: وللأسف لم أجد صورة العِش ولا مرة.

● ويسأله جمال: كم كان مصروفك في الطفولة، وهل كنت تدخر منه؟

ــ في الغالب كان مصروفي "قرشا" يوميًا، ومن القرش كنت أشتري "ملبن"، وشيكولاتة، كما كنت أدخر جزءًا منه كي أذهب إلى السينما خلال عطلة نهاية الأسبوع.

ففي تلك الفترة من طفولتي كانت العملة المُستعملة هي "المليم"، أما القرش فيساوي "10 مليم".

وأضاف باستحسان وهو يشير بيده إلى حجم كبير: كنت بمليم أشتري "لب" في "قرطاس" كبير. (ضحك).

ثم يكمل: إنما كنت أضغط على نفسي في الإنفاق اليومي من القرش كي أدخر ما يكفي للذهاب إلى السينما في عطلة نهاية الأسبوع. لأن سعر التذكرة كان قرشًا.

● فيسأله الطفل جمال: هل في طفولتك كانت هناك أفلام رسوم متحركة؟

ــ يرد: لم تكن قد ظهرت بعد. الكارتون ظهر تقريبا ونحن في أوائل المرحلة الثانوية.

(ومع ما هو واضح على الأديب الكبير من إستمتاعه باستعادة ذاكرته لأيام البراءة والحيوية لم يتردد جمال إبني في أن يسأله ببراءة قائلًا):

● هناك هوايات للأطفال من زمان وما زالت موجودة حتى الآن، مثل جمع الطوابع، تربية دود القز، وعمل مجلات الحائط. هل كانت لك هوايات من هذه النوعية؟

ــ فأجاب الأديب الكبير بنبرة طفولية: قمت بتربية دود القز لبعض الوقت، وأضاف بابتسامة من تستعيد ذاكرته مشهدًا جذابًا: وتابعت "الشرنقة".

● ويواصل الطفل "جمال" الأسئلة البسيطة: هل كنت تحب مثلي أن تربي في المنزل عصفورًا، أو قطًا، أو سلحفاة؟

ــ ويرد نجيب محفوظ: في بيتنا كانوا يقومون بتربية الحمام، حيث يتم تعليق نوع من الأقفاص في الجدار، وكان يطير ويصفروا له. كما كنا نلعب فوق السطوح مع الأرانب والبط.

● مشهور عنك حب النظام. هل كنت منظمًا منذ الطفولة. وكيف؟

ــ كنت منظمًا منذ وقت مبكر جدًا. والسبب وراء ذلك هو تعدد هواياتي، وكنت أريد أن أستمتع بكل منها، فقد كنت حريصا على المذاكرة لكي أكون متفوقًا، وأحب أن ألعب كرة القدم، وكانت مواعيد التمرين يومية، كما كنت أريد في نهاية الأسبوع أن أدخل سينما أو مسرح. فتعددت الهوايات. بالتالي لم يكن من الممكن أن أستمتع بها كلها إلا عن طريق أن أفرض على نفسي نظاما. فخلال أيام الأسبوع هناك موعد للعب كرة القدم، وبقية الوقت للمذاكرة. يوم الخميس راحة. وبرنامج ليوم الجمعة. 

فتعلمت النظام بسبب تعدد الهوايات. لأن كثيرًا من زملائي الذين كانوا معي في فريق كرة القدم (إبتلعتهم الكرة) ففسدت حياتهم المدرسية بسبب قلة التنظيم للوقت. 

لكن أنا لم يبتلعني شيئًا.

أنا الذي كنت أبلع (ويضحك بحيوية كأنها ضحكة الانتصار).

ومع هذه الضحكة المنتصرة أكتفي بهذا القدر مما دار في اللقاء، الذي استمر لمدة نصف ساعة كاملة، وهي مدة طويلة بالنسبة لكاتبنا الكبير في تلك الفترة من عمره.

إنما استكمال تصوير الأجواء،يتطلب الإشارة إلى ملامح جرت قبله مباشرة. 

فأحد أهم ما شغل "جمال" إبني بمجرد وصوله إلى باب شقة الكاتب الكبير هو تواجد أعداد هائلة من القطط أمام باب الشقة من الخارج، وأن هناك وعاء للطعام وآخر للشراب على الأرض، وقد عرفنا أن زوجة الأديب الكبير تواظب على وضعها من أجل القطط. وهو أمر كتب عنه "جمال" بحماس بعد ذلك في مجلة الحائط على هامش اللقاء.

أما الكاتب الكبير نجيب محفوظ، قبل بدء الحوار، فقد غمرت وجهه ابتسامة بمجرد أن رأى جمال ابني يصافحه وهو يرتدي الشورت.

ثم اتسعت ابتسامته أكثر بمجرد أن جلس ابني إلى جواره. ربما بسبب أنه مع الاقتراب قد لا حظ بعين الروائي التي تلتقط التفاصيل أن هناك جرحًا واضحًا على إحدى ركبتيه، وربما بخياله الأدبي المعتاد على استكمال المشهد قد استنتج أن الجرح سببه الوقوع أثناء ممارسة هواية لعب كرة القدم.

وربما استنتج أيضًا أنني قبل المقابلة قد طلبت من ابني إرتداء بنطلون طويل باعتباره ذاهبًا لمقابلة صحفية وليس للنزهة في النادي، وأن رد ابني قد تضمن أنه مع الجرح في ركبتيه لن يستريح في ارتداء البنطلون، لأن قماشه سيحتك بالجلد فيؤلمه.

وربما استنتج أيضًا أن ابني قد أضاف بأنه ذاهب بصفته طفلًا صغيرًا يريد حوارًا مع الأديب الكبير، وليس بصفته صحفيًا كبيرًا في السن.     

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز